المملكة السعودية تخسر أكثر من 225 مليار دولار من احتياطيّها النقدي خلال أقل من 5 سنوات
قبل نحو 4 سنوات، حذر صندوق النقد الدولي من تآكل الاحتياطي المالي، الذي جمعته السعودية طيلة العقد الماضي، نتيجة عجزها المالي في ظل تراجع أسعار النفط، ويبدو أن نبوءة صندوق النقد تقترب من التحقق.
ويظهر رصد لـ”العربي الجديد” من واقع البيانات الرسمية، أن المملكة خسرت بالفعل أكثر من 225 مليار دولار من احتياطيّها النقدي خلال أقل من 5 سنوات.
ومع التآكل السريع للاحتياطي النقدي، دخلت السعودية، أكبر مصدّر للنفط في العالم إلى نادي المقترضين، في ظل الضغوط المالية المتزايدة، جراء الإنفاق المرتفع، ولا سيما على الحرب في اليمن والصراعات السياسية في المنطقة.
وفي ظل هذه الصعوبات، تظهر الخطط الحكومية، أن الرياض ماضية في فرض إجراءات تقشفية على المواطنين، تتمثل في إلغاء منح ومساعدات مالية لملايين السعوديين وتقليص الأجور للمواطنين العاملين في الأجهزة الحكومية، بالإضافة إلى فرض المزيد من الرسوم على أسر العاملين الأجانب.
وفي رصد لـ”العربي الجديد”، خسرت السعودية نحو 842 مليار ريال (225.3 مليار دولار) منذ نهاية عام 2014 وحتى نهاية أغسطس/آب من العام الجاري.
خسارة ثلث الاحتياطي
فقد أظهرت بيانات حديثة صادرة عن مؤسسة النقد العربي السعودي (البنك المركزي)، أن الأصول الاحتياطية للمملكة بلغت بنهاية الشهر الماضي 1.904 تريليون ريال (507 مليارات دولار)، مقابل 1.910 تريليون ريال في نفس الشهر من العام الماضي 2018، ونحو 2.746 تريليون ريال نهاية عام 2014، ما يشير إلى أن البلد الغني بالنفط خسر ما يقرب من ثلث احتياطياته خلال هذه الفترة.
ويشمل إجمالي الأصول الاحتياطية لمؤسسة النقد العربي السعودي “ساما”، الذهب، وحقوق السحب الخاصة، والاحتياطي لدى صندوق النقد الدولي، والنقد الأجنبي، والودائع في الخارج، إضافة إلى الاستثمارات في أوراق مالية في الخارج.
وأضحى الوضع المالي للسعودية حرجاً، في ظل توقعات قوية بتزايد العجز المالي وارتفاع معدلات الاستدانة، خلال الأشهر المقبلة، من أجل تدبير احتياجاتها التمويلية، وذلك بعد الهجمات المتكررة على منشآت النفط، وآخرها هجوم (انصار الله) في 14 سبتمبر/أيلول الماضي على منشأتين رئيسيتين شرق المملكة، ما أدى إلى فقدان نحو نصف إنتاج النفط بواقع 5.7 ملايين برميل يومياً.
وفي تقرير لوزارة المالية، اطلعت عليه “العربي الجديد”، اتضح أن الديون الحكومية قفزت بشكل غير مسبوق خلال السنوات الخمس الأخيرة، لتصل بنهاية يونيو/ حزيران 2019 إلى 627.8 مليار ريال (167.4 مليار دولار)، مقابل 44.3 مليار ريال (11.8 مليار دولار) بنهاية عام 2014.
ووفق التقرير، فإن الدين المحلي بلغ خلال منتصف العام الجاري 344.7 مليار ريال، بينما سجل الدين الخارجي 283.1 مليار ريال (75.5 مليار دولار).
حرب اليمن وحصار قطر
ولم يكن التراجع الحاد في أسعار النفط منذ نهاية 2014، هو السبب الوحيد في العجز المالي للمملكة ولجوئها إلى السحب بشراهة من احتياطي النقد الأجنبي والاستدانة، وإنما كانت لكلفة الحرب في اليمن المستمرة منذ 2015 وحصار قطر المفروض منذ الخامس من يونيو/حزيران 2017، تداعيات أكثر إرهاقا للوضع المالي للمملكة، وفق المحللين الاقتصاديين.
وفي تقرير لإدارة البحوث في شركة الراجحي المالية السعودية، فإن موازنة المملكة للعام الجاري تحتاج أن يبلغ متوسط سعر النفط 84 دولاراً للبرميل لتحقق التوازن، بينما سجلت العقود الآجلة لخام القياس العالمي مزيج برنت تسليم ديسمبر/ كانون الأول المقبل نحو 57.6 دولارا للبرميل، بينما دار خلال الفترة الماضية من هذا العام حول 60 دولاراً للبرميل في المتوسط.
وتوقع البنك الدولي في تقرير له مطلع العام الجاري، أن يبلغ متوسط أسعار النفط 67 دولارا للبرميل العام المقبل 2020، متأثرا بتوقعات تراجع النمو العالمي في ظل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين والتي يرجح اتساع نطاقها لتمتد إلى أوروبا أيضا.
ويسهم النفط بنحو 70 في المائة من إيرادات المالية العامة، وأكثر من 40 في المائة في إجمالي الناتج المحلي، وحوالي ما يقرب من 80 بالمائة من الصادرات.
وفي تقرير أخير صادر عن صندوق النقد الدولي في سبتمبر/أيلول الماضي، اطلعت عليه “العربي الجديد”، طالب الصندوق الحكومة السعودية بتنويع النشاط الاقتصادي لخلق المزيد من فرص العمل للمواطنين السعوديين وتخفيف أثر عدم اليقين في أسواق النفط.
وتركز جهود تنويع الصادرات، حتى الآن على البتروكيماويات والصناعات البلاستيكية التي تعتمد أيضا على النفط، ففي عام 2017، بلغت الصادرات 170 مليار دولار 75 في المائة منها صادرات نفطية.
وبلغت صادرات البتروكيماويات 31 مليار دولار، بينما لم تتجاوز الصادرات غير النفطية الأخرى 21 مليار دولار، أي أقل من المستوى الذي سجلته في عام 2011 وهو 22 مليار دولار، وفق تقرير صندوق النقد الدولي.
وتظهر هذه البيانات أن رؤية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان التي طرحها قبل نحو ثلاث سنوات لتنويع الاقتصاد لم تتحقق، بل تراجعت الصادرات غير النفطية.
وتقول الحكومة إنها تهدف إلى تشجيع نمو القطاع الخاص في العديد من القطاعات ذات الأولوية. وفي إطار “رؤية 2030” هناك أهداف محددة تشمل زيادة مساهمة القطاع الخاص في إجمالي الناتج المحلي من 40 في المائة في عام 2018 إلى 65 في المائة في عام 2030 ، مما يساعد على تنمية المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وزيادة نمو الاقتصاد.
لكن صندوق النقد الدولي أشار إلى وجود معيقات تحول دون تنويع الاقتصاد ودعم دور القطاع الخاص لتحقيق هذا الهدف.
وأشار إلى أنه يتعين تحسين تنافسية تكلفة العمالة قبل تطوير القطاع الخاص المتنوع الذي يوفر فرص العمل للسعوديين، لافتا إلى أن العامل السعودي في القطاع الخاص يحصل على أجر سنوي قدره 25 ألف دولار تقريبا في المتوسط، بينما أجر العامل السعودي في القطاع الحكومي، يبلغ حوالي 35 ألف دولار.
تكبيل القطاع الخاص
وأكد أنه في ظل التفاوت بين الأجور قد يتعذر على القطاع الخاص الذي يوظف السعوديين أن يكون تنافسياً، مشيرا إلى أن قطاع التجزئة قام بتوظيف 5.1 ملايين عامل في 2018، لم يتجاوز عدد السعوديين منهم 300 ألف.
ووفق صندوق النقد، ينبغي خلق المزيد من فرص العمل في القطاع الخاص، ولا سيما أن هناك حاجة إلى توفير ما يصل إلى مليون وظيفة على مدى الخمس سنوات المقبلة، وعمليا لا يمكن استيعاب هذا العدد في القطاع الحكومي، فإضافة مليون وظيفة حكومية بمتوسط الأجر الحكومي الحالي للسعوديين (حوالي 11 ألف ريال شهريا) سيرفع فاتورة الأجور بنسبة 5.4 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، بينما يدعو الصندوق إلى تقليص كتلة الأجور وخفضها.
وشدد الصندوق على ضرورة تنويع الاقتصاد، فعند اعتماد النشاط الاقتصادي والصادرات والإيرادات بشكل كبير على النفط، يمكن أن يكون للصدمات التي تتعرض لها أسواق النفط أثر كبير على الاقتصاد، لافتا إلى أنه قد ينخفض الطلب العالمي على النفط قبل نفاد الاحتياطيات الكبيرة لدى المملكة، وقد يصبح استخدام مصادر الطاقة البديلة ممكنا في وقت أقرب مما هو متوقع.
وأشار إلى أنه حتى إذا تم زيادة الأصول المالية لصندوق الاستثمارات العامة من مستواها الحالي البالغ 300 مليار دولار إلى حجم مماثل لأكبر صناديق الثروة السيادية في العالم حاليا وقدره تريليون دولار تقريبا، فإن العائدات المالية لن تكون بمفردها بديلا كافيا للدخل في عالم ما بعد النفط.
وتبلغ الإيرادات النفطية السنوية 11 ألف دولار لكل فرد سعودي في الوقت الحالي، وبافتراض زيادة عدد السكان السعوديين إلى حوالي 26 مليون نسمة بحلول عام 2030، ستكون هناك حاجة إلى أصول قيمتها ما بين 5 و7 تريليونات دولار لتحقيق نفس المستوى من نصيب الفرد من إيرادات الأصول المالية.
ووفقا للبيانات الصادرة عن الهيئة العامة للإحصاء، بلغ عدد السكان السعوديين 20.1 مليون نسمة في عام 2018، وسيبلغ عدد السكان 26.3 مليون نسمة في 2030 بمعدل نمو 2 في المائة سنوياً.
تقليص الأجور والدعم
ويبدو أن الحكومة السعودية مقبلة على تنفيذ برامج من شأنها تقليص فاتورة أجور السعوديين العاملين في القطاعات الحكومية وإلغاء الكثير من الدعم الموجه للأسر السعودية في الفترة المقبلة.
ووفق تقرير صندوق النقد، فإن” فاتورة الأجور الحكومية، مرتفعة من المنظور العالمي، وينبغي الاستفادة من مراجعة نظام الخدمة المدنية في وضع استراتيجية تتضمن مراجعة البدلات والمزايا بغرض احتواء فاتورة الأجور، وجعل مستويات موظفي الخدمة المدنية ورواتبهم تتماشى مع المستويات المطلوبة لتقديم خدمات ذات كفاءة عالية”.
وأشار إلى أن الحكومة تراجع برامج الحماية الاجتماعية، “لتحقيق وفورات في المالية العامة من خلال دقة توجيه البرامج إلى الفئات المستحقة”، لافتا إلى أن الحكومة أكدت أنها ” ستتمكن من احتواء فاتورة الأجور عن طريق السيطرة على تضخم الأجور، ومواصلة ضبط حجم الموظفين في الخدمة المدنية بالقدر الملائم بعدم إحلال موظفين جدد محل كل المتقاعدين)، والاستعاضة عن الموظفين الذين يتركون العمل بموظفين جدد يحصلون في البداية على أجور أقل”.
كما تجري حاليا مراجعة برامج المساعدة الاجتماعية، حيث يستفيد المواطنون من مجانية التعليم والرعاية الصحية، كما تتسم نظم معاشات التقاعد بالسخاء حيث يتقاعد العديد من الأشخاص في سن الخمسين تقريباً.
كما تتضمن برامج شبكات الأمان الاجتماعي، التي يجري إعادة النظر فيها برنامج حساب المواطن، وهو نظام للتحويلات النقدية موجهة للأسر السعودية لتخفيف أثر تنفيذ تصحيح أسعار الطاقة، وضريبة القيمة المضافة.
رسوم على الوافدين
وبينما أشار صندوق النقد إلى ضرورة تنويع الاقتصاد وزيادة توظيف السعوديين في القطاع الخاص، فإنه يلفت إلى أن فرض رسوم متزايدة على العاملين الأجانب وأسرهم لا يخدم تنويع الاقتصاد.
فقد تم تطبيق رسوم المقابل المالي على الوافدين للمرة الأولى في عام 2011 بقيمة 200 ريال سعودي شهرياً على الوافد الواحد في الشركات التي يزيد فيها عدد العاملين الوافدين على عدد العاملين السعوديين.
واستخدمت إيرادات هذه الرسوم في تغطية تكلفة مختلف برامج سوق العمل والتدريب التي نفذها صندوق تنمية الموارد البشرية، لكن في يناير/كانون الثاني 2018، تمت زيادة الرسوم إلى 400 ريال شهريا للوافد الواحد في الشركات التي يكون فيها عدد العاملين الوافدين مساويا لعدد السعوديين أو أقل منه، ثم إلى 600 ريال شهريا في يناير/كانون الثاني 2019، ومن المقرر زيادة هذه الرسوم إلى 800 ريال بحلول العام 2020.
كذلك تم فرض رسوم على أسر الوافدين اعتبارا من يوليو/تموز 2017 بقيمة 100 ريال شهريا للفرد الواحد، وتمت زيادتها إلى 200 ريال في نفس الشهر من 2018، ومن المقرر زيادتها مجدداً إلى 400 ريال بحلول يوليو/تموز من العام المقبل.
وتدفع الرسوم مقدما عن عام كامل وقت تجديد التأشيرة، مما قد يكون له تأثير كبير على سيولة الأسر والشركات.
ونظرا لحجم السكان الوافدين في المملكة، تنشأ عن الرسوم المفروضة عليهم إيرادات ضخمة، إذ تشير البيانات الرسمية الصادرة عن المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية إلى أن عدد العاملين الأجانب في القطاع الخاص بلغ نحو 6.59 ملايين عامل بنهاية الربع الأول من 2019، بينما يقدر عدد أفراد أسر الوافدين بحوالي 3 ملايين شخص.
ووفق بيانات صندوق النقد بلغ مجموع الإيرادات الناتجة عن زيادة الرسوم المفروضة على الوافدين وأسرهم 29 مليار ريال العام الماضي، مؤكدا أن لهذه الرسوم أغراضا مختلفة، وقد تتعارض في بعض الحالات مع أهداف التنمية الاقتصادية.
رحيل 1.9 مليون أجنبي
وأظهرت بيانات رسمية أن ما يقرب من 1.9 مليون عامل أجنبي في القطاع الخاص غادروا السعودية منذ بداية عام 2017، في مؤشر على تنامي الضغوط المعيشية والصعوبات الكبيرة التي تواجهها أغلب الشركات في المملكة