( نص + صوت ) المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 05 رمضان 1442هـ 17-04-2021م
( نص + صوت ) المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 05 رمضان 1442هـ 17-04-2021م
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
سورة الرحمن من السور القرآنية المباركة، التي قدَّم الله فيها عرضاً عن حياة الإنسان: الحياة الأولى، والحياة الثانية، وعن الربط ما بين الحياتين، وفيها دروسٌ مهمةٌ وعظيمة، نتحدث- إن شاء الله- على ضوء ما ورد فيها من الآيات المباركة باختصار، وبتركيز على بعضٍ من النقاط المهمة والمفيدة؛ لأن القرآن الكريم هديه واسع، وهو بحرٌ لا يدرك قعره، ولكننا نركِّز بشكلٍ أساسي على بعض النقاط المهمة، والتي لها علاقةٌ بسياق موضوعنا.
يقول الله “سبحانه وتعالى”:
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ}[الرحمن: 1-2]، الرَّحمن: هو الله “سبحانه وتعالى” الرحيم بعباده، الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو أرحم الراحمين، ومن رحمته “سبحانه وتعالى” التي أسبغها علينا: ما عرضه علينا في هذه السورة المباركة من أصناف النعم الواسعة والعجيبة، وفي مقدِّمتها قوله “سبحانه وتعالى”: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ}.
القرآن الكريم هو مفتاح النعم بكلها، هداية الله “سبحانه وتعالى” هي أول متطلبات السعادة لهذا الإنسان في حياته في الدنيا، وفي حياته في الآخرة، والقرآن الكريم هو العنوان الأعظم للهداية الإلهية، وهو خاتم كتب الله “سبحانه وتعالى”، فهو مفتاح النعم على أساس الإتِّباع له، والتحرك وفق منهجه، تتحول النعم المادية التي عرضها الله لنا “سبحانه وتعالى” في هذه السورة، إلى نعيمٍ، ويعيش الإنسان في هذه الحياة براحةٍ وسعادةٍ واطمئنان، كما قال الله “سبحانه وتعالى” في كتابه الكريم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}[الأعراف: من الآية96].
القرآن هو كتاب رحمة، كل ما فيه من تعليمات، وإرشادات، وتوجيهات، كلها رحمة، وتحقق للإنسان الرحمة في هذه الحياة، وفي مستقبله في الآخرة، فيما تحققه للإنسان بشكلٍ مباشر، وفيما تقيه وتدفعه عنه من أخطار ومصائب ونكبات وشرور من جانبٍ آخر، وهو رحمةٌ معنويةٌ كبرى، ينير لك الطريق، يرشدك لليسرى، يرشدك إلى ما يوصلك إلى رحمة الله، وإلى رضوانه، وإلى جنته، وإلى السلامة من عذابه، فالرحمة فيه رحمةٌ عظيمةٌ، وهو يسمو بك كإنسان فيما يعلِّمك وفيما يزكيك، فهو مفتاح النعم، وهو ما يجسِّد الرحمة العظمى، هو من أجلى صور الرحمة من الله “سبحانه وتعالى” لك، فهو يعلِّمك كيف تحيا، وكيف يجب أن تكون، وماذا عليك أن تعمل، وماذا يلزمك أن تترك وأن تحذر منه.
{عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، ونعمة التعليم التي هيَّأت للإنسان القابلية لأن يتعلم القرآن، وأن يستفيد منه، هي من أعظم النعم التي أكرم الله بها هذا الإنسان، وجعل من خلالها لهذا الإنسان الفرصة لأن يكون له دور كبير في هذه الحياة، وأن يستمتع بالنعم الإلهية الواسعة.
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ}[الرحمن: الآية3]، الله “سبحانه وتعالى” أنعم على الإنسان حينما خلقه، وجودك كإنسان هو نعمة، وكلٌّ منا يعرف هذه الحقيقة: أنَّ وجوده في هذه الحياة هو نعمةٌ عليه، وخَلْقُ الله لك كإنسان في أحسن تقويم هو نعمةٌ كبيرة، وما خلق الله لك من الحواس، وفي مقدمتها: السمع، والبصر، والإدراك العقلي، وما خلق الله “سبحانه وتعالى” لك من الأعضاء والجوارح، التي تستفيد منها، وتعتمد عليها، وجعلها على كيفيةٍ تستفيد منها على نطاقٍ واسع، بما ليس لغيرك من سائر الحيوانات والمخلوقات على هذه الأرض، ليست كيفية خلقها، وتركيبها، وجوارحها، وأعضائها، على النحو الذي خلقك الله عليه، وهيَّأ لك من خلاله أن تستفيد منها على نحوٍ واسع جداً.
لو نلحظ مثلاً نعمة اليدين، كيف تختلف يد الإنسان عن يد غيره من الحيوانات، وهذا يتيح له أيضاً الاستفادة منها بأشكال كثيرة جداً، وهكذا بقية الأعضاء والحواس، ما وهبك الله “سبحانه وتعالى” من قدرات، من مواهب، من طاقات، كلها- على المستوى الذهني والنفسي والجسدي- كلها نعمةٌ كبيرةٌ عليك، وتستفيد منها في حياتك هذه على نطاقٍ واسع، وبأشكال كثيرة ومتعددة.
والإبداعات الإنسانية التي هيَّأها الله، والتي جرت على يد الإنسان، هي شاهدٌ أنَّ الله “سبحانه وتعالى” هيَّأه، وصنعه، وخلقه، وركَّبه على كيفيةٍ، وعلى نحوٍ، وبمدارك، وبآليات، وطاقات، وقدرات، ومواهب، تساعده على الإبداع في هذه الحياة، وعلى أن يعمل لنفسه أشياء كثيرة فيما وهبه الله في نفسه، وفيما مكَّنه الله فيه في هذه الحياة من وسائل وإمكانات، هذا شاهد على هذه النعمة العظيمة.
{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[الرحمن: الآية4]، الله “سبحانه وتعالى” علَّم الإنسان البيان، وسيلة التخاطب والتفاهم مع الآخرين، والإنسان يحتاج إلى هذه؛ لأن مسيرة الحياة البشرية هي مسيرة اجتماعية، يتعاون فيها المجتمع البشري، والعلاقة فيما بين الناس في تعاملهم، في شؤون حياتهم، في أمور حياتهم الواسعة، من متطلباتها الأساسية وفي مقدِّمة احتياجاتها: أن يكون بينهم وسائل للتخاطب والتفاهم، والحديث إلى بعضهم البعض، وإيصال ما يحتاجون إيصاله إلى بعضهم البعض، ما يصطلح عليه في هذا العصر بالتواصل، التواصل جانب أساسي وحيوي لحياة الناس في كل شؤونهم، في أمورهم الاقتصادية، في شؤونهم الاجتماعية… في مختلف حياتهم وشؤون حياتهم، فتعتبر هذه نعمة عظيمة أنعم الله بها على الإنسان، وتقوم عليها الحضارة الإنسانية، ويقوم عليها التعامل فيما بين البشر، وتجري شؤون حياتهم في مختلف شؤونها على أساس هذه النعمة: نعمة البيان، ووسيلة التفاهم، والتخاطب، والتواصل فيما بينهم، بقليلٍ من التأمل لهذه النعمة، يدرك الإنسان كم هي نعمة عظيمة جداً على الإنسان كفرد، وعلى المجتمع البشري بشكلٍ عام.
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن: الآية5]، من نعم الله “سبحانه وتعالى” علينا كبشر، على الإنسان كإنسان فرداً ومجتمعاً: هي نعمة الشمس، الشمس وما يأتينا منها من الضياء، وما يأتينا منها من الدفء والحرارة، نعمةٌ كبيرةٌ جداً، وشيءٌ أساسيٌ لحياتنا هذه، ما كانت الحياة لتستقيم، لتستمر، لتكون على هذا النحو، لولا هذه الهبة الإلهية، وهذه العطية والنعمة الكبيرة من الله “سبحانه وتعالى”، جانبٌ منها يتصل بهذه المسألة: بمسألة الدفء، والضياء، والحرارة، وما لهذا من أهمية كبيرة بالنسبة للإنسان هو، وبالنسبة للنباتات التي يعتمد عليها في غذائه.
ولكن إضافةً إلى ذلك: الاستفادة منها، والاستفادة من القمر التي لها أهمية كبيرة، وتفيد الإنسان في الليل، وفي حركته في الليل بضوئها الهادئ، الخافت، المنير، المناسب، ولكن مع كل ذلك: للشمس والقمر علاقة مهمة جداً بمسألة تعاقب الليل والنهار، وبمسألة الحساب، والأوقات، وعلامات الشهور والسنين، وتعاقب الفصول، وهذه مسألة أساسية في حياة الإنسان، وانتظمت حياة البشر على أساس انتظام أوقاتهم، ليل ونهار، شهور وسنين، فصول، ولها علامات.
الشمس والقمر لها حساب دقيق في حركتها، وتنتظم عليه بدقةٍ تامةٍ وبالغة، وانتظمت بهذا حياة الناس في مختلف شؤونهم وأمورهم، وهذا معروف في واقع الحياة، الإنسان يعتمد في انتظام حياته على هذه العلامات: على علامة الشهور، علامات السنين، علامات الفصول، وصلتها بشؤون حياة الإنسان على مستوى المعاملات، على مستوى الأعمال، على مستوى الاهتمامات والأنشطة المختلفة في الحياة.
وحتى على مستوى مواسم الزراعة، نحن نعرف أنَّ لكل صنفٍ من أصناف الزراعة مواسم محددة، مرتبطة بحركة الشمس والقمر والأرض، ومنتظمة بذلك، ومتوزعة على النطاق الجغرافي على كوكب الأرض، ففي بلد معين يناسب أن يكون زراعة صنف معين مثلاً القمح من أصناف الزراعة في وقت كذا؛ بناءً على منازل الشمس، وحركة الشمس، وحركة القمر، وحركة الأرض، وحتى فيما يتعلق بالقمر لها علاقة بحركة المد والجزر في حركة البحار على وجه الأرض… وهكذا، لهذا علاقة مهمة جداً، انتظمت به حياة الناس في أعمالهم، واهتماماتهم، وزراعتهم، وتجارتهم، وأنشطتهم، مع نعمة تعاقب الليل والنهار، وبقَدَرٍ مناسبٍ لحياة الإنسان، وبما يتناسب أيضاً مع الحفاظ على مستوى معين من الحرارة والبرودة على هذه الأرض، تلائم حياة الإنسان، وتنسجم مع احتياجاته، ونلحظ أهمية ذلك: ماذا لو كان الليل طويلاً جداً، كما هو في بعض الكواكب يستمر بما يعادل العام من أعوام الأرض؟ لكانت هذه مشكلة كبيرة، أو كان الليل سرمداً إلى يوم القيامة؟ لكان في هذا ضيق من استمرارية الظلام والتعب، وهكذا لو استمر النهار من دون تعاقب الليل الذي يأتي للسكن والراحة والنوم، ويتحقق للإنسان فيه السبات- كما قال الله “سبحانه وتعالى”- بنومه واستراحته.
فهذه النعمة الكبيرة، وهي أجرام كبيرة، القمر جرم كبير، والشمس جرم كبير جداً، مشتعل ووهَّاج، ولا يحتاج إلى عناية من البشر أنفسهم، لا يحتاج إلى أن يهتموا به، وأن يقدموا له الوقود، أو البترول، أو الديزل، أو الغاز، ولا يحتاج إلى أي تعب، نعمة تصلهم بشكلٍ مستمرٍ ومنتظمٍ، وتستمر بشكلٍ دائم وفق ذلك النظام العجيب، وتمدهم بالطاقة، وتمدهم بالدفء والحرارة، ولها أهمية كبيرة فيما يتصل بحياتهم، وغذائهم، وحركة المياه على وجه الأرض، ومنافع واسعة جداً، واتساق الزمن، واتساق الزمن، وحركة الزمن المنضبطة، التي يضبط الإنسان عليها مسيرة حياته، وأدائه في هذه الحياة، وأعماله في هذه الحياة، كلها تعتمد على الوقت، من الساعات إلى السنين، ومن الفصول إلى الشهور، إلى منازل الشمس، إلى حركة الأرض… وهكذا.
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن: 5-6]، الشجر- كذلك- من النعم الكبيرة على الإنسان، وما أودع الله فيها من الخواص التي تعود بكل نفعها على هذا الإنسان، النباتات من أهم ما يحتاجه الإنسان على هذه الأرض، والنباتات واسعة جداً، أصنافها بمئات الآلاف، يقال: أنَّ البشر إلى حد الآن في إحصاءاتهم وصلوا إلى إحصاء أكثر من خمسمائة ألف نوع من النباتات، منها النباتات التي تدخل بشكلٍ أساسيٍ في غذاء الإنسان، ومنها النباتات التي يستخدمها في الطب، ما يقارب لحد الآن مما قد اكتشفه الإنسان- واكتشافاته لا تزال محدودة وبسيطة- أكثر من مئة ألف نبات مما قد اكتشفه من النباتات الطبية، ومنها النباتات التي تفيده أيضاً في ملابسه، ونباتات تفيده في أشياء كثيرة جداً، الأشجار ذات نفع كبير جداً للإنسان، وذات علاقة مهمة بالنسبة لتوفر وانتظام عملية الأوكسجين في الأرض، وفوائدها كثيرةٌ جداً، وهي كذلك نعمة أودعها الله لهذا الإنسان، وأودع فيها الخواص والمنافع التي يحتاج إليها في جوانب كثيرة من حياته، مع الطابع الجمالي لها، ذات جمال ومناظر خلَّابة ومبهجة.
{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا}[الرحمن: من الآية7]، السماء هي نعمة، وهي سقف، والله “سبحانه وتعالى” عندما رفعها، فهو أنعم بذلك نعمةً كبيرةً علينا كبشر، لو كانت ملاصقة لهذه الأرض؛ لكان في هذا ضيق كبير للإنسان، ولكن رفعها مريح للإنسان، سقف رفيع جداً، وأيضاً لها منافع كثيرة جداً، واكتشف في هذا الزمن كم هناك من المنافع والوسائل التي يستفيد منها الإنسان من خلال السماء وارتفاعها.
{وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}[الرحمن: من الآية7]: العدل بمفهومه العام، العدل كقاعدة أساسية للتعامل؛ لأننا لسنا فقط بحاجة إلى النعم المادية ويكفينا هذا فقط، من أهم ما نحتاج إليه، ومن متطلباتنا الضرورية كبشر: هو أسس للتعامل فيما بيننا، أسس نمشي عليها في مسيرة حياتنا، في التعامل فيما بيننا، وفي العمل فيما استخلفنا الله فيه.
والله “سبحانه وتعالى” جعل العدل هو الأساس الذي قدَّمه لنا لنعتمده كنظام للتعامل فيما بيننا في واقع حياتنا، وللتعامل مع ما استخلفنا الله فيه في هذه الأرض، وما فيها من الإمكانات، نحتاج إلى هذا المبدأ العظيم، وبه تستقيم حياتنا، وبه تستقيم حياتنا؛ لأنها حتى لو توفرت لدينا هذه الإمكانات والنعم المادية من دون نظامٍ سليمٍ يقوم عليه التعامل فيما بيننا، والتعامل مع هذه النعم؛ لكان لهذا تأثير سلبي علينا، لما استفدنا من هذه النعم على الوجه المطلوب، لكننا كنا مع وجود كل هذه النعم بحاجة إلى نظامٍ عادل، وإلى العدل نفسه كنظام نتعامل من خلاله بشكلٍ موزونٍ وصحيحٍ ومستقيمٍ مع هذه الأشياء، ومع بعضنا البعض، {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ}، فالله جعل العدل هو الذي نزن به كل المعايير والمقاييس، وأسس التعامل فيما بيننا بشكلٍ عادل.
{أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ}[الرحمن: الآية8]؛ لأن ما يخرِّب حياة البشر، وما يكدِّر عليهم ما قد أولاهم الله من النعم، وما هيَّأ لهم من ظروف الحياة الطيبة والاستقرار: هو طغيانهم، عندما لا يلتزمون بالعدل فيما بينهم، عندما يفقدون الاتزان في التعامل على أساس العدل فيما بينهم، وتجاه هذه الأشياء التي استخلفهم الله فيها.
ما يفسد على الإنسان حياته، والاستقرار فيها، وما يفسد على الإنسان النعم هذه التي أعطاه الله: هو عدم التعامل بشكلٍ متوازنٍ على أساس العدل معها وفيها، هذا هو الذي يخرِّب الأشياء، يفسد الأشياء، يدخل هذا إلى مسألة التعامل، والعلاقات، والأعمال، ويدخل هذا إلى نفس الأشياء المادية، عندما نعمل فيها، فلا نضبط أداءنا وعملنا فيها، واستغلالنا لها، وفق المعايير والمقاييس الصحيحة المتوازنة، فالزيادة والإفراط تخرِّب هذه الحياة، تخرِّب هذه الحياة في أمنها واستقرارها، وفي أشيائها المادية.
{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}[الرحمن: الآية9]، مهمٌ جداً أن نقيم الوزن بالقسط، على أساس القسط، على أساس العدل، على أساس المقياس الصحيح، الذي لا يكون فيه لا إفراط وطغيان وتلعُّب، ولا أيضاً إخسارٌ ونقصان.
{وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}، عندما جعل الله لنا في هذه الحياة مقاييس وآلات، آلات للمقاييس وللوزن وللكيل، هذا يدخل ضمن المفهوم العام للعدل، هذا مما يحقق لنا العدالة في التعامل فيما بيننا، ولذلك هناك الآن مثلاً مقاييس محددة، وآلات تستخدم للوزن، للكيل، للمقاييس في مختلف شؤون حياة البشر، في كل ما ينتجه البشر هناك مقاييس معينة، يعني: عندما نلحظ مثلاً من الميزان الذي يعتمد على الشوكة أو الرقم، إلى مختلف المعايير، إلى الأطنان، إلى مختلف المقاييس، لمختلف الأغراض، هذا مما يساعد على العدل في تعاملات البشر فيما بينهم؛ لأن العدل هو العنوان الأعم، الآليات والوسائل والمقاييس التي تستخدم لتحقيقه، هي تدخل ضمن هذا المفهوم، وهي مهمةٌ جداً في حياة الناس، هي نعمة من الله “سبحانه وتعالى”، وبها تستقيم حياة الناس؛ ولذلك من المهم الالتزام بها، فهو هنا أكَّد على الالتزام بها، قد أنعم الله بها علينا، وهيَّأ لنا من خلالها أن تستقيم بها حياتنا على أساسٍ من العدل، بدون غشٍ ولا ظلمٍ، فيبقى علينا نحن كبشر أن نلتزم بها، أن نقيم الوزن على أساسها، وهذا يدخل- كما قلنا- ضمن مختلف ما ينتجه البشر، في زراعتهم، في تجارتهم، في معاملاتهم التجارية والاقتصادية، أن يكونوا أوفياء، ودقيقين، وملتزمين بهذه المقاييس والمعايير؛ حتى يكونوا ملتزمين بالعدل؛ لأنها وسائل لإقامة العدل فيما بينهم، وأن يحذروا الغش، وأن يحذروا الخداع.
ثم عندما ندخل إلى مسألة الاستخلاف في الأرض، والتمكين لهذا الإنسان لاستغلال خيراتها وهو يصنِّع، وهو ينتج مختلف الأشياء، لكل الأشياء مقادير محددة بالشكل المناسب الذي يجعلها صالحةً للإنسان، الاختلال في هذه المقادير، والاختلال في هذه المقاييس، يعود بأضرار بالغة على هذا الإنسان، على صحته، على حياته، وهذه مسألة مهمة جداً.
معروفٌ الآن في العملية الصناعية، والإنسان يصنِّع وينتج، أنه قد يصنع شيئاً معيناً، وهو مركب من مواد مختلفة، وهذه المواد حتى يكون هذا الشيء نافعاً وصالحاً للإنسان، إما في غذائه، إما في زراعته، إما في بنائه، مختلف أغراض حياته، هناك مقادير محددة، الالتزام بهذه المقادير يحافظ على جودة هذا المنتج، وعلى صلاحيته للإنسان، وعلى ألَّا يكون مضراً، الاختلال في هذه المقادير ينتج عنه ضرر وخطر، إما ضرر بهذا الإنسان، أو بالبيئة، أو بالزراعة، أو… ولهذا نحن معنيون بكل هذا المفهوم الواسع، أن نلتزم، أن نلتزم؛ لأن بهذا تستقيم حياتنا، وإلا فالإنسان يخرب، يخرب على نفسه حتى الانتفاع بهذه النعم، المزارع الذي يستخدم مواد ضارة، أو مقادير ضارة، الشركات التي تستخدم مقادير ضارة؛ بغية أن تحصل على المزيد والمزيد من الأرباح بأقل تكلفة، وهكذا عملية الإنتاج في كل مراحلها وأشكالها، عندما لا يلتزم فيها بالمقادير الصحيحة المناسبة، التي تضمن أن يكون هذا الذي أُنتِج من هذه النعم، وفقاً لما ينفع هذا الإنسان، ولا يجلب الضرر إليه، ينشأ بذلك ضرر كبير في حياة الناس، فلذلك نجد هذا المبدأ مبدأً عظيماً ومهماً، ونحتاج إليه في مختلف شؤون حياتنا الاقتصادية: في الزراعة، في الصناعة، وفي التعامل بشكلٍ عام.
الإنسان في مسيرة حياته بحاجة أيضاً إلى أن يكون متوازناً في كل أموره، وأن يعطي لكل شيءٍ مستواه الصحيح، فهو إن أفرط يضر بنفسه، وإن فرط يضر بنفسه، ثم يسري هذا الضرر إلى واقعه، إلى محيطه الاجتماعي.
{وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ}[الرحمن: 9-10]، الأرض التي يعيش فيها الإنسان، الله “سبحانه وتعالى” هيأها للخلق، هيأها للبشر، جعلها مجهزةً تجهيزاً عجيباً يلائم حياة هذا الإنسان ويناسبه، في بيئتها، في حرارتها، في برودتها بما يلائم هذا الإنسان ويناسبه، وبما يهيئ له استمرارية حياته، وأيضاً في جغرافيتها، مساحات شاسعة وواسعة، يستغلها الإنسان للعمران، وللزراعة، ولأعراض متعددة.
أيضاً جبالها التي هي أوتاد لها؛ لكي لا تكون مضطربةً بشكلٍ مستمر، ولكن الكثير منها أيضاً مكسوٌ بالتراب، ويمكن أن يستغله الإنسان، وأن يسكن عليه، وأن يستقر فيه، وأن يكون له فيه أنشطة زراعية، وظروف حياتية ملائمة له لأشكال متعددة من متطلبات هذه الحياة، ومنافعه في هذه الحياة.
ثم أيضاً هذه الأرض، ببيئتها وجغرافيتها، تناسب الإنسان في السير عليها، والحركة فيها، والعمران عليها، والزراعة فيها، فهي مجهزة تجهيزاً مناسباً جداً.
{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ}[الرحمن: 11]، في هذه الأرض، وفيما هيأ الله للإنسان فيها: الفواكه، الفواكه هي في مقدمة المواد الغذائية المناسبة جداً للإنسان، وهي من النعم العجيبة على هذا الإنسان؛ لأنها نعم مستساغة، وذات قيمة غذائية مهمة جداً لحياة الإنسان، وذات قيمة غذائية وطبية تفيد هذا الإنسان، وهي في أصلها، في أشكالها، في قيمتها الغذائية، في مذاقها، في أنواعها الكثيرة جداً، من مظاهر رحمة الله بهذا الإنسان، وتكريمه لهذا الإنسان، نعمة وتكريم؛ لأنها مستساغة، وجميلة، وذات قيمة غذائية، ومناسبة لحياة الإنسان، حتى أن الإنسان يستمتع بأكلها، ويتذوقها، فيها جمالها، ولونها، وشكلها، ومذاقها، وفوائدها، وهي من النعم الكبيرة، وهي أصناف كثيرة جداً، ومنتشرة على الأرض، فيتوفر في مناطق من الأرض أصناف لا تتوفر في منطقة أخرى، وتتكامل بها العملية التجارية بين بني البشر.
النخل كذلك خص بالذكر؛ لأنه أيضاً نعمة متميزة جداً، ومتوفرة بشكلٍ كبير، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ}، مع الجانب الجمالي فيها كلها.
{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ}[الرحمن: 12]، الحب بأنواعه، مثلاً: القمح، الشعير، الذرة… أصناف كثيرة جداً تدخل تحت عنوان الحب، الحبوب أنواع كثيرة جداً، وهي من المواد الغذائية الرئيسية للإنسان، التي يعتمد عليها في غذائه وحياته، وتناسبه، وهيأ الله للإنسان أن تتوفر له بأشكال وأصناف كثيرة جداً، ويسر ذلك، حتى أنها على المستوى الزراعي من أسهل الأشياء في زراعتها، ومن أكثرها وفرةً في إنتاجها؛ لأنها أساسية في غذاء الإنسان، فكانت على هذا النحو: يتيسر زراعتها، وتتوفر محاصيلها، ويكثر منتوجها، إذا تحرك الإنسان في إطار هذه النعم.
{ذُو الْعَصْفِ}: الحب أيضاً فيه الثمار التي يستفيد منها الإنسان بشكلٍ مباشر، وفيه (عصفه): تبنه، وقصبه، وورقه، الذي يستفيد الإنسان منه في إطعام حيواناته، ماشيته، البقر، الغنم، الإبل، يستفيد الإنسان لإطعام هذه الحيوانات الأساسية، التي يحتاج إليها الإنسان هي، ويستفيد منها، من حليبها، من لحومها، من جلودها، من شعرها، يستفيد منها الإنسان فائدةً كبيرةً في هذه الحياة، فكانت نعمة أضيفت إليها نعم كبيرة على هذا الإنسان.
وَالرَّيْحَانُ}: كل النباتات العطرية ذات الرائحة الطيبة والزكية، وسع الله على هذا الإنسان في النعم ليس فقط في غذائه واحتياجاته الغذائية، وإنما أيضاً حتى إلى هذا المستوى: أن يقدم لك “سبحانه وتعالى”، وأن يخلق لك، وأن ينعم عليك بكثير من الأشجار العطرية، ذات الرائحة الزكية الطيبة، التي تستمتع برائحتها، ترتاح برائحتها الزكية، مع ما فيها أيضاً من فوائد طبية، وقيمة غذائية، ومنافع كثيرة جداً يستفيد منها الإنسان، والإنسان يلحظ هذا الجانب في حياته: الروائح الزكية والطيبة، التي ينتعش بها، يرتاح بها، ويصنع الآن منها الكثير والكثير من المنتجات، من العطور وغيرها، التي يستخدمها في إطار هذه النعمة الواسعة جداً عليه.
كل هذه النعم العجيبة المتنوعة، وهذا النموذج المتكامل، الذي قدم لنا أصنافاً كثيرة، نعم عظيمة جداً، يقول الله عنها: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: الآية13]، بأيٍ من هذه النعمة يمكن أن تكذب، هل يمكنك أن تقول أن الشمس كذبة كبيرة، وأنه لا وجود للشمس، أو لا وجود للقمر، أو لا وجود لهذه الأرض بهذه الكيفية، وأنت تعيش عليها، وترى كم هي مهيأةٌ لك؟ هل يمكن أن تنكر وجود هذه الأشجار والنباتات، وهذه النعم: نعمة التعليم، نعمة الهداية، نعمة خلق الإنسان بهذه الكيفية، نعمة ما خلق له في هذه الأرض، نعمة الفواكه، نعمة العدل، نعمة الحبوب هذه، نعمة الرياحين، كل هذه النعم نعم ملموسة، مرئية، مشاهدة، لا يمكن للإنسان أن ينكرها أبداً، وأن يكذب بها.
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن: 14-16]، نجد أن الله “سبحانه وتعالى” قد ذكر لنا في بداية الآيات المباركة نعمة خلق الإنسان، فهو قال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ}[الرحمن: 1-3]، ثم نجد أنه هنا من جديد يذكرنا بخلقنا، بعد أن ذكر الله “سبحانه وتعالى” هذه النعم الكبيرة علينا، أصل هذه النعم، خلق الإنسان، وتسخير هذا العالم الكبير، وهذه النعم الكبرى لهذا الإنسان، هي نعم كبرى، أنت مخلوق صغير بسيط على هذه الأرض، وتجد كل هذه النعم أكبر منك، نعم كبيرة، نعم عظيمة، فلماذا خلقها الله لك؟ لماذا أنعم بها عليك؟ إنما كل هذا برحمته، بجوده، بكرمه، ليس لأنك أنت، ليس لأن لك حقاً عليه، ليس لأنه ضروري أن يخلقها لك، وأن يعطيها لك؛ حتى لا ترى له فضلاً عليك، الفضل له، هذا برحمته، هذا بنعمته، هذا بكرمه، هذا بجوده، له الفضل عليك، فلا تكن متكبراً، لا تكن مستهتراً تجاه هذه النعم، لا تكن وكأنه ليس لله فضلٌ عليك، وكأنه كان من الضروري أن يخلقك، وأن يعطيك كل هذه النعم، أنت مخلوق بسيط، استذكر أصلك، أصلك مخلوقٌ من الطين، الذي يبس حتى صار صلصالاً، يصلصل من شدة جفافه، كالخزف، كالآنية التي يصنعها القواع، التي يصنعها من يصنع الأواني من الخزف، هذا هو أصل خلقك، ليس لأن أصل خلقك شيءٌ عظيمٌ جداً، فكان لا بدَّ أن يحترمك الله، وأن يقدم لك هذه النعم، وكأنه ليس له فضلٌ عليك.
مشكلة الإنسان أنه ظلومٌ كفار، لا يقدر نعمة الله عليه، وكأنها كانت من الضروري، كأنه كان على الله أن يفعل له ذلك بدون فضلٍ ولا منة، لا، الله هو المنعم العظيم، المتفضل الكريم، الجواد البر الرحيم، وهو ذو الإفضال والمنة عليك، عليك أن تستشعر نعمته عليك، أن تقدر نعمته عليك؛ حتى تشكر هذه النعم، مصيرك حتى في مستقبلك في الآخرة متوقفٌ على شكرك لهذه النعم، وعلى تقديرك لهذه النعم، حتى حركتك في هذه الحياة على نحوٍ صحيح هو مبنيٌ على تقديرك لهذه النعم؛ لأنك حين ذلك ستحب الله “سبحانه وتعالى” وتشكره، وأيضاً تسير على هديه، وبهذا تستقيم حياتك، وتنتفع أكثر بنعمه، وتحظى برعايته أكثر.
فالله يذكر الإنسان بأصل خلقه، ويذكر الجان أيضاً؛ لأن هذه السورة يخاطب الله فيها الجن والإنس، عندما يقول: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}، الجن والإنس.
الجن مخلوقٌ أيضاً {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}، قطعة من اللهب، مادة بسيطة جداً من اللهب، فالإنسان لو يستذكر أصله هو يستشعر نعمة الله عليه، وتكريم الله له، الله هو الذي كرمك، وإلا فأصلك مخلوقٌ من الطين اليابس، الذي صار يصلصل في ابتداء خلق الإنسان، في خلق آدم “عليه السلام”، ثم جعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهين، ماء مهين، العناصر التي خلق الله منها الإنسان عناصر بسيطة ومحدودة، ولو ينظر إليها بقيمتها المادية لا تساوي شيئاً، هي شيء بسيط جداً، الإنسان مخلوق مجهري صغير، مركب من عناصر بسيطة من الطين، مستخلصة من هذا التراب، قد تكون قيمته المادية لا تساوي شيئاً، حتى بعد أن يبلى ويتحول إلى تراب، تراب القبر مكروه، لا يبقى له قيمة، ولا يستحسن استخدامه للزراعة، فالإنسان ليستشعر، عليه أن يستشعر تكريم الله له، نعمة الله العظيمة عليه.
نكتفي بهذا المقدار، ونواصل- إن شاء الله- المشوار في المحاضرة القادمة.
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، صالح الأعمال، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛