مبدأ الولاية في الإسلام
مبدأ الولاية في الإسلام هو مبدأٌ عظيم، ومبدأٌ مهم، الإسلام بكله مبنيٌ على هذا الأساس، مبنيٌ على أن الله “سبحانه وتعالى” هو ولي الذين آمنوا، هو ولي هذا الكون بكله، خالقه، ومالكه، ومدبره، ولكن له أيضاً على عباده الولاية التشريعية، ولاية الهداية، ولاية الأمر والنهي،
والإسلام مبنيٌ على هذا الأساس، الله “سبحانه وتعالى” قال في القرآن الكريم: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: الآية257]، {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، هم في مسيرة حياتهم يعتمدون عليه، يؤمنون به، يتوكلون عليه، هو يرعاهم، هو يهديهم، هو ينصرهم، هو “سبحانه وتعالى” الذي شرع لهم منهج حياتهم، الذي يعتمدون عليه في مسيرة حياتهم، هو الذي يحدد لهم رموزهم وهداتهم، فلذلك هناك في الإسلام هذا الارتباط، هذه الصلة بالله “سبحانه وتعالى”، التي تبنى عليها مسيرة الحياة، تبنى عليها مسيرة الحياة في منهجية الذين آمنوا التي يعتمدون عليها في مواقفهم، في ولائهم… إلى غير ذلك من التفاصيل.
أهمية هذا المبدأ أنه يحمي الأمة من الاختراق من جانب أعدائها، ومن جانب المنافقين في داخلها؛ لأنهم يحرصون على أن يسيطروا على الأمة في كل مسيرة حياتها، في وجهتها، في مواقفها، في ولاءاتها، وفي منهجية حياتها، ولذلك رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” بإعلانه هذا بيَّن للأمة أن الذي يصلها كما كان واقعها في حياته مبنياً على أن تسير وفق توجيهاته، وفق تعليماته، وفق الهدي الذي يقدمه إليها من الله “سبحانه وتعالى”، وأن تكون متبعةً لرسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، ملتزمةً بأوامره وتوجيهاته، بيَّن لها أن الذي يصلها بمنهجه، بهديه، بما كان عليه، يواصل مشوارها على هذا الأساس، هو أمير المؤمنين عليٌ “عليه السلام”.
وهو ما قبل هذا المقام كان يخبرها عن علي، وعليٌّ كان معروفاً في أوساط الأمة، معروفاً بكماله الإيماني، معروفاً بتميزه، معروفاً بما قاله الرسول عنه “صلوات الله عليه وعلى آله”، وما كان يقوله عنه له صلةٌ بهذا الموقع، بهذا المقام، بهذا الدور؛ لأن هذا الدور الذي يواصل من خلاله مسيرة الأمة على ما كانت عليه مع رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، بالإتِّباع لهدي الله، والتمسك بمنهج الله “سبحانه وتعالى” في مسيرة حياتها، هو موقعٌ ومقامٌ لابدَّ أن يكون الذي فيه مهتدياً بالقرآن الكريم، مستنيراً بالقرآن الكريم، متمسكاً بالقرآن الكريم، فيتحرك بالأمة، ويقود الأمة، ويهدي الأمة، ويقف بالأمة على أساس القرآن، وما يهدي إليه القرآن، ولا يفارق بالأمة عن القرآن في شيء، لا في مسيرة حياتها وفيما يقدَّم لها، ولا في مواقفها، ولا في ولاءاتها، ولا في توجهاتها.
فلذلك كان يقول لهم عن عليٍّ “عليه السلام”، كان رسول الله يقول لهم: ((عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع علي))، ليطمئنهم أن عليًّا في مواقفه، في توجهاته، فيما يقدمه للأمة، فيما يتحرك فيه بالأمة، في كل الأمور، في مختلف القضايا، في كل المسائل، سواءً المسائل التي يقدمها للأمة، كهادٍ للأمة، من موقع الهداية لها فيما شرعه الله لها، في عقائدها، في مبادئ دينها، في تعاليم دينها، أو في مواقفها وتوجهاتها، لن يحيد بها عن القرآن؛ لأنه لا يحيد عن القرآن قيد أُنمُله، سيسير بها في اتجاه القرآن، ومع القرآن.
بل قال لهم عن أمير المؤمنين “عليه السلام”: أنه يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتل النبي، وكما قاتل هو مع النبي على تنزيله، يوم يحارب القرآن في تأويله، فيما يقدمه، فيما يفيده، فيما يدعو إليه، في تعاليمه، يوم تستهدف تعاليم القرآن في واقع الأمة، تستهدف بالتحريف، تستهدف بالتزييف، وتستهدف بالانحراف في مقام العمل، في واقع العمل، في واقع الحياة، يقف عليٌّ هو لحماية هذه التعاليم القرآنية، للدفاع عنها في واقع الأمة، للحفاظ عليها في واقع الأمة، كما هو مبلغ ومعلم، وكما يقدمها بالهداية، يدافع عنها في واقع الحياة، في واقع العمل، حتى بالجهاد، حتى بالقتال، يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتل النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” على تنزيله.
من يصل بالأمة بشكلٍ صحيح برسولها، وبقرآنها، ويواصل المشوار على هذا الأساس بشكلٍ صحيح، لابدَّ أن يكون على الحق، ومع الحق، ويهدي إلى الحق، وعالماً بالحق، ومتمسكاً بالحق، وثابتاً على الحق، فلا يميل إلى الباطل أبداً، في أي موقف، في أي قضية، في أي شيءٍ يقدمه إلى الأمة، لابدَّ أن يقدم الحق نقياً، سليماً من كل شوائب الباطل، ولابدَّ أن يكون من الثابتين على هذا الحق، فرسول الله قال لهم عن عليٍّ “عليه السلام”: ((عليٌّ مع الحق، والحق مع علي))، فلاحظ كيف يطمئن هذه الأمة.
من يقوم في هذا المقام، من يصل الأمة بحقٍّ مع نبيها وقرآنها وهدي نبيها، لابدَّ أن يكون من ذوي العلم والمعرفة، بل أن يكون أعلم الأمة بهدي رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، بنور الله “سبحانه وتعالى”، ولذلك رسول الله يقول: ((أنا مدينة العلم، وعليٌّ بابها))، فيطمئن الأمة على أنه الباب إلى علم رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، فهو يصل هذه الأمة بنبيها في علمه، بنبيها في هديه، بنبيها في مسيرة حياته، فيما كان عليه، فيما يوجه إليه، فيما يأمر به.
وهكذا عندما نأتي إلى بقية الأمور، التي تحدث بها الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله”، أو قدمها الله في القرآن الكريم، من العناوين المهمة، ذات الصلة بهذا الموقع، وبهذا المقام، وبهذا الدور، عندما قال الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: الآية55]، يأتي ليقدم ولاية عليٍّ “عليه السلام” كصلة وامتداد لولاية الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” بالعناوين الإيمانية؛ لأن العنوان العظيم الذي قدَّم به عليًّا “عليه السلام” هو عنوان الإيمان، الإيمان الذي بلغ فيه عليٌّ الكمال، والمرتبة العالية، والمنزلة العظيمة، حتى سُمِّي في القرآن بصالح المؤمنين، عندما قال الله في سورة التحريم: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}[التحريم: من الآية4]، فهو يُقَدَّم بإيمانه، بل بكمال إيمانه، بالمرتبة العالية في إيمانه.
وهو يحمل كل تلك المبادئ والقيم الإيمانية على أرقى مستوى، تحدث القرآن الكريم عن إخلاصه العظيم لله في كل أعماله، في كل توجهاته، في كل مواقفه، عن إخلاصه العظيم لله وهو يجاهد في سبيل الله، عندما قال الله “جلَّ شأنه” في القرآن الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}[البقرة: من الآية207]، كان أول وأكبر وأهم مصاديق هذه الآية من المسلمين، من أتباع رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، هو أمير المؤمنين عليٌّ “عليه السلام”، فيشهد له القرآن أنه باع نفسه في سبيل الله ابتغاء مرضات الله، يشهد له بإخلاصه الصادق، بإخلاصه التام، لا يبتغي إلا مرضات الله “جلَّ شأنه”.
شهد له في إخلاصه في مقام البذل، والعطاء، والسخاء، في قصة أولئك (اليتيم، والمسكين، والأسير) في سورة الإنسان، في إطعامهم، في إيثارهم حتى بطعامه وهو صائم، وهو جائع، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}[الإنسان: الآية9]، ومن أهم أعمدة الإيمان، من أهم ما في الإيمان، هو: الإخلاص الصادق لله “سبحانه وتعالى”، الذي يجعل الإنسان يعمل كل ما يعمل، ويقف في كل مواقفه من أجل الله “سبحانه وتعالى”، ليس له مقصدٌ آخر، ليس له مطلبٌ آخر، ليس له أهداف، وأطماع، وأهواء، ورغبات أخرى، يعمل شيئاً من أجلها، لا سلطة، ولا هوى النفس، ولا أطماع مادية، ولا حتى المكاسب المعنوية، التي تتعلق بالصيت لدى الناس، والسمعة لدى المجتمع، {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}.
وهكذا يقدِّمه القرآن برحمته العجيبة، في اهتمامه الكبير بأمر الناس في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[المائدة: من الآية55]، وهو يتصدَّق بخاتمه وهو راكعٌ لذلك السائل الذي دخل مسجد رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” يسأل الناس فلم يعطه أحدٌ شيئاً، فيشير إليه بخاتمه وهو في الصلاة، والصلاة بالنسبة لعليٍّ أعظم مقامٍ بين يدي الله “سبحانه وتعالى”، يتوجه إليه بكل قلبه، ومشاعره، ووجدانه، يعظِّم أمر الصلاة، يقيم الصلاة، ولكنه مع ذلك لا يفقد اهتمامه بأمر الناس، بأمر المستضعفين، بأمر المحتاجين، حتى في ذلك المقام المهم.
في علاقته بالله “سبحانه وتعالى”، في عمقها الوجداني، وفي جانبٍ من أهم جوانبها، يتحدث الرسول “صلوات الله عليه وعلى آله” بما يبيِّن لنا عن أعماق عليّ بشكل قاطع؛ لأن الذي يخبرنا هو الرسول، وهو يخبر عن الله، عن الله “سبحانه وتعالى” عالم الغيب والشهادة، العليم بذات الصدور.
في وقعة خيبر عندما قال رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله))، إنه هنا يتحدث عن إيمان عليٍّ في عمقه النفسي والوجداني، في جانبٍ من أهم الجوانب الإيمانية، التي يبنى عليها الإيمان، ويقوم عليها الإيمان، وهو المحبة لله ورسوله، المحبة الصادقة التي كانت قد ملأت قلب عليٍّ، ووجدان عليّ، وهكذا قُدِّم لنا عليٌّ في القرآن، وفيما قاله رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، قُدِّم لنا أيضاً بباطنه في عمقه الإيماني، حتى بما في سريرة نفسه، بما أخبر الله عنه: عن حبه لله ورسوله، عن حبه لعباد الله، عن رحمته بعباد الله، عن إخلاصه لله، عن كماله الإيماني، عن صدقه في إيمانه، عن تفانيه في إيمانه، وقُدِّم لنا أيضاً في واقعه العملي، وفي كماله بالمؤهلات العظيمة، في ارتباطه الوثيق بالقرآن،
هدايةً، ومعرفةً، وعملاً، اهتداءً، والتزاماً عملياً، وتمسكاً صادقاً، لا يحيد عنه ولا يميل أبداً، في معرفته بالحق، في هدايته إلى الحق، في تمسُّكه الدائم بالحق في كل الأحوال، في كل المواقف، في كل الظروف لا يحيد عنه ولا يميل، في علمه، ونوره، ووعيه، وبصيرته، ويقينه الذي بلغ فيه مرتبةً عالية، هو القائل: ((ما شككت في الحق منذ أُرِيتُه))، لم يتطرق إليه الشك في لحظةٍ واحدة، وهكذا في مختلف الجوانب، ثم في منزلته الرفيعة عند الله “سبحانه وتعالى”.
في حديث الراية: ((ويحبه الله ورسوله))، هو: ((يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله))، هو ولي الله الذي يحبه الله، ويحبه رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، هو الذي يجسِّد قيم رسول الله، أخلاق رسول الله، هو أعظم الناس تأثراً برسول الله، واهتداءً برسول الله، واقتداءً برسول الله، وانتفاعاً برسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، إلى درجة أن يعبِّر النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” عن هذه الصلة، عن هذا الارتباط، عن هذه العلاقة، عن هذا التأثر بأكمل عبارةٍ عندما قال: ((عليٌّ منِّي، وأنا من عليّ))، وحينما قال أيضاً مخاطباً لأمير المؤمنين “عليه السلام”: ((أنت منِّي، وأنا منك))، فكأنه نسخة مصغرة من رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله”، انطبعت بطابع رسول الله في أخلاقه، في إيمانه، في تقواه، في مكارم الأخلاق… في بقية أمور الكمال الإيماني، ((إلَّا أنَّه)) في حديث المنزلة ((لا نبي بعدي)).
في مرتبته، ودوره، ومسؤوليته، ومقامه، أتى حديث المنزلة، المعروف بين الأمة في مختلف مصادرها المعتبرة لديها بحسب تنوع مذاهبها، وهو قول رسول الله “صلوت الله عليه وعلى آله” لعليٍّ “عليه السلام”: ((أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى، إلَّا أنَّه لا نبي بعدي))، له هذه المنزلة في كماله، في مقامه، في عظمته، في إيمانه، في مرتبته الإيمانية في واقع الأمة، وفي دوره، في مسؤوليته، في جهده، في طبيعة الدور الذي له في هذه الأمة، وعلى أساسه يفترض أن تُبنَى علاقة الأمة به، ونظرتها إليه.
هذا هو أمير المؤمنين عليٌّ “عليه السلام” في هذا المقام العظيم، فهو يصل بالأمة، يصلها من موقع كماله للقدوة، وجدارته بالهداية، وأصالته في الامتداد، يصلها بولاية رسول الله وولاية الله “سبحانه وتعالى”، يسير بها على أساس منهج الله الحق، بشكلٍ نقيٍ، بشكلٍ صحيح، بشكلٍ سليم، وهذا ما تحتاج إليه الأمة؛ لأنها تواجه مخاطر الزيف، مخاطر الاختراق، وصولاً إلى السيطرة عليها، والانحراف بها في ولاية أمرها، وفي ولاءاتها، وفي مواقفها، وفي توجهاتها، وهذا ما حرص عليه أعداء هذه الأمة منذ وقتٍ مبكر.
كلمة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة ذكرى يوم الولاية 18-12-1443 هـ 17-07-2022