جبهة المقاومة من باب المندب إلى كاريش
بقلم / عماد حطبة
أثناء مراقبتك العرض العسكري اليمني الأخير، لا بدّ من أن تشعر بالفخر تجاه ما استطاع اليمنيون إنجازه وهم تحت واحد من أقسى أشكال الحصار الذي عرفه العالم في العصر الحديث؛ ليس فقط جرائم العدو السعودي الذي حرم اليمنيين من الغذاء والدفء والدواء وقصف المستشفيات ومخيمات النازحين، ولكن ما رافق هذا الحصار من صمت دولي وصل حد التواطؤ. ما حدث تجاه اليمن لم يكن جرائم ضد الإنسانية، كما وصفتها لجنة مناهضة التعذيب، بل كان جرائم الإنسانية ضد الشعب اليمني
ترافق العرض العسكري مع عرض للسلام (لمن يريد) أطلقه السيد مهدي الشماط؛ سلام مبني على القوة ويحقق مصالح الشعب اليمني برفع الحصار، وإيصال الوقود، وتبادل الأسرى، وتحديد مصير المفقودين، ودفع رواتب الموظفين. هذه الرسالة كانت موجهة إلى مملكة آل سعود، لكن رسالة العرض العسكري كانت موجهة إلى العالم كله، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية.
هذا البعد العالمي للعرض العسكري لا يقتصر على رمزية إطلاق اسم القدس واسم البحر الأحمر على صواريخ الجيش اليمني، فإعلان اليمن أنه في قلب محور المقاومة يعني ببساطة أنَّ هذه الأسماء ليست رمزية، بل جاءت تعبيراً عن إستراتيجية حقيقية قائمة على توسيع جبهة المواجهة مع المشروع الاستعماري لتمتد من باب المندب وحتى حقل كاريش في المياه الإقليمية الفلسطينية.
في ظل وهن السيد الأميركي، يتسابق في المنطقة مشروعان ومحوران متناقضان، والطريف أنَّ المشروعين يراهنان على التراجع الأميركي في المنطقة لتحقيق أهدافهما.
المحور الذي تقوده السعودية، والذي برز بشكل واضح بعد بداية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، عبّر عن نفسه برفض الإملاءات الأميركية برفع إنتاج النفط، ثم جاء القرار ببيع النفط للصين باليوان، ووقف إطلاق النار في اليمن، واستعادة علاقاتها مع تركيا بعد التنازل التركي عن فكرة قيادة العالم السني للسعودية.
أما الإمارات العربية التي تؤدي دور الجوكر في المنطقة، فقد أكَّدت أكثر من مرة تمسكها بعلاقاتها مع روسيا والصين وإيران، رغم تهديدات المؤسسات المالية الغربية التي لم تستطع تنفيذ أي منها.
“إسرائيل” جزء من هذا المحور، لكنها ليست في قيادته. في ظل التهديدات التي تطال هذا الكيان المحاط من جميع الجهات بأكثر من ربع مليون صاروخ، فإنَّ نجاح القبة الحديدية بنسبة 90% لن يحميه من دمار شبه شامل، الأمر الذي شاهده في أرامكو، وفي قاعدة الأسد، والذي يختبر احتماله في كاريش.
هذا الكيان المأزوم يحتاج إلى حلفائه العرب، كالإمارات والأردن والسعودية، أكثر من أيّ وقت مضى. يعلم الجميع أن بقاء “إسرائيل” اليوم أمر مؤقت، والسبب الوحيد لبقائها اليوم هو بحث الأطراف المعنية عن بديل لها مقبول من الجميع، وخصوصاً أن البديل الوحيد الممكن اليوم هو المقاومة.
في ظلِّ هذا البديل المرفوض من الأطراف الرئيسة في محور الاستسلام، يتصاعد الحديث عن دور الأردن؛ البلد الذي يبدو كأنّه استعاد بعضاً من عافيته السياسية، إلا أنَّه ما زال هشاً اقتصادياً، بارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتراجع نسب النمو، وسياسياً بعدما صنفته منظمة “هيومن رايتس ووتش” دولة قمعية.
مصر تعاني أيضاً، وتعلن بوضوح أنها غير معنية بقيادة الوطن العربي. أزمتها الاقتصادية مستفحلة، والبنى السياسية فيها هشة جداً بعد حملة قمعية طالت جميع خصوم السلطة القائمة، وتوتر اجتماعي يعبر عن نفسه من فترة إلى أخرى بارتفاع منسوب جرائم الكراهية الدينية والطائفية والجرائم ضد النساء.
في المقابل، يقف محور المقاومة مدركاً بشكل لا يشوبه أدنى شك أنَّ خصومه جميعاً في أضعف حالاتهم منذ عقود. لا يحمل هذا المحور أوهاماً تدفعه إلى أفعال مغامرة، ولا يدع ردود الأفعال تتحكّم في استراتيجيته، بل يتقدم نحو أهدافه بشكل بطيء، لكنه واثق.
استطاع محور المقاومة خلال العقدين الأخيرين فرض نفسه ليكون صاحب الكلمة الأخيرة في كل المشاريع التي تتعلق بالمنطقة؛ من حرب 2006، التي خاضها المحور بتنسيق كامل ليهزم المشروع الأميركي – الإسرائيلي – السعودي بإنهاء ظاهرة المقاومة، إلى الحرب على سوريا التي أفشل فيها مشروعاً استعمارياً ضخماً، واستطاع توسيع قاعدة حلفائه من خلال التحالف مع دول مثل روسيا والصين والهند وباكستان، لتستمر قوة هذا المحور بالتصاعد إلى درجة فرض معها شروطه بشكل شبه تام فيما يتعلق بترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين.
لقد كان إعلان السيد حسن نصر الله أنَّ عين المقاومة على كاريش وعلى الصواريخ كافياً لإعلان تأجيل العمل في هذا الحقل، بعدما كان مقرراً البدء به في الأسبوع الأول من أيلول/سبتمبر الجاري.
ما قاله نتنياهو ليائير لبيد عن خضوعه لشروط حزب الله ليس مزايدة انتخابية، بل إخلاء طرف من نتنياهو في حال تمكّنه من تشكيل حكومة بعد الانتخابات القادمة، لأنه سيضطر إلى الخضوع للشروط نفسها، فهو يعلم أن تهديدات محور المقاومة قابلة للتنفيذ، وأنّ أيّ رد إسرائيلي سوف يستدعي معركة يعدّ أحد احتمالاتها تحرير أجزاء من الجليل الفلسطيني على يد المقاومة وحلفائها، ما يعني إعادة الصراع العربي الإسرائيلي إلى المربع الأول: حرب 1948.
تعاني “إسرائيل” مشاكل بنيوية تشكّل تهديداً لوجودها. لا تتعلّق هذه المشاكل بالعداء الشعبي العربي لها فحسب، بل تتعلق أيضاً ببنيتها كدولة تقوم على مهاجرين متعددي الانتماء والثقافة، رابطهم بالأرض هشّ جداً، وثقافة الاحتلال التي تجمعهم غير قابلة للصمود أمام التحديات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
شريان الحياة الوحيد الذي يمدّ هذا الكيان بقابلية الحياة هو المشروع الاستعماري الغربي، وعلى رأسه الولايات المتحدة. لذلك، إن التراجع الملحوظ لهذا المعسكر يشكل تهديد مقلقاً للكيان الصهيوني، وخصوصاً أن الدول الصاعدة تشكل حليفاً لمحور المقاومة.
“إسرائيل” بين فكي كماشة، وهي تخشى فعلاً، وللمرة الأولى في تاريخها، سقوط مشروع دولتها أو ما سماه أحد سياسييها “الدمار الثالث للهيكل”.
ما بين باب المندب وحقل كاريش تتسع جبهة المقاومة، وكل فعل مقاوم، سواء كان داخل فلسطين، كما يفعل أبطال المقاومة الفلسطينية كل يوم، أو كان فعلاً مقاوماً سياسياً أو ثقافياً تقوم به القوى السياسية المنحازة إلى محور المقاومة، يجير لمصلحة المعركة الأخيرة. الدور اليوم على النخب السياسية العربية لترتقي نحو الفعل المقاوم على جميع الجبهات، لتتعاظم جبهة المقاومة ويصبح النصر أقرب