أكبر عملية احتيال في التاريخ (الاقتصاد الوهمي)
قال المفكر البريطاني جورج برناردشو “لو أن جميع الخبراء الاقتصاديين في العالم اجتمعوا معا، فلن يتوصلوا إلى استنتاج واحد” هذه المقولة تلخص النظرة العامة للاقتصاد باعتباره مادة ضبابية غامضة تُقدّم وجهاتِ نظر متعددة وأحيانا متناقضة.
لذلك فأنا أحتار جدا حين أسمع من يتعامل مع الفوائد البنكية باعتبارها ضرورة في الاقتصاد ويَصِمُ من يُخالفه في ذلك بالتخلف ولا يتواضع فيحتمل أن حساباته قد تكون خاطئة وذلك لأنه يعتبر واقع الغرب نموذجا مُبهرا لا بد أن يكون صحيحا لا غبار عليه ولا شك فيه!
وفي خضم الجدل الفقهي والقانوني هو لا يقبل وصفَ هذه الفوائد بـ”الربا” لأنها لو كانت “ربا” فهي حرام، ولا يمكن أن يقضي اللهُ بحرمة شيء يعتقد أنه مفيد اقتصاديا!
وبناء على هذا المنطق نخشى أن يصل بنا الحال إلى أن لا نرى مانعا شرعيا من التجارة المُربحة بنبيذ العنب الفاخر لمنطقة بني حشيش طالما كان ذلك مفيدا للاقتصاد، فالمهم هو الربح! وماذا عن صناعة الأفلام الإباحية التي أثبتت تأثيرها في الاقتصاد الغربي وتحقيقها أرباحا خيالية وتوفيرها للكثير من الوظائف بين ممثلين ومنتجين ومصورين وأطباء ومخرجين ومعلنين وغيرهم، فانظروا إلى أين قد يوصلنا هذا المنطق؟
والآن نعود لطرح سؤالنا الرئيسي: هل الفوائد البنكية ضرورة من ضرورات الاقتصاد؟ وهل إسقاطها يعني إسقاطا للبنوك وتضييعا لدورها الحيوي في الاقتصاد المعاصر؟
مع إدراكنا لأهمية البنوك وحيوية دورها في الاقتصاد المعاصر، وإذا اتفقنا أن الفوائد البنكية ليست غاية بحد ذاتها بل هي أداة اقتصادية لها وظيفة محددة وهي جذب رؤوس الأموال وتوفير السيولة النقدية، فالسؤال هنا هو: هل هناك وسائل أخرى لجذب رؤوس الأموال وتوفير السيولة النقدية غير الفوائد البنكية؟
هل يمكن ابتكار أدوات اقتصادية أخرى لجذب رؤوس الأموال؟
سبق وأن وجهتُ هذا السؤالَ لأكاديميين وخبراءَ ومختصين في مجال الاقتصاد فأجاب من أجابني مؤكدا أن هناك أساليب أخرى غير الفوائد البنكية لجذب رؤوس الأموال.
وهذه فرصة جديدة لتوجيه نفس السؤال لأي مختص يرى عدم إمكانية الاستغناء عن الفوائد البنكية، ولنناقش ذلك بشفافية وموضوعية بعيدا عن شيطنة الفوائد البنكية أو تقديسها.
ما هو الاقتصاد الوهمي؟
بعدما تنجح البنوكُ عبر الفوائد البنكية في جذب رؤوس الأموال فإن الخطوة التالية هي تشغيل ذلك المال في الاستثمار، لكن لأن البنوك بالفوائد تمنح المودعين ربحا مضمونا بقطع النظر عن تحقيق أرباح حقيقية فإنها تقوم بخلق عملة دفترية لا وجود لها سيما إن كانت بنوكا مركزية لديها الصلاحية لإصدار عملة فعلية.
أمريكا التي تتراكم عليها الديون لتبلغ أكثر من 30 تريليون دولار تقوم هذه الأيام بطباعة الدولار لمواجهة العجز في الميزانية وهي بهذا وإن حلت مشكلتها بشكل مؤقت إنما تضحي بقيمة الدولار وتخفضه ليصبح أقل من قيمته الأصلية بحوالي 25٪ وهي بذلك كأنما قد سرقت من جيب كل شخص يحمل 100 دولار 25 دولارا دون أن يشعر، وهذه الجريمة جريمة طباعة العملة دون غطاء هي احتيال بقصد السرقة، يبين لنا موقع howmuch.com انخفاض القيمة الفعلية للدولار منذ العام 1913 بجدول مرئي واضح يُراعي كثيرا من المعايير والاعتبارات والوقائع حيث توصل إلى نتيجة مذهلة، فلو فرضنا أن قيمة 100 دولار سنة 1913 كانت تساوي 100 دولار فعلية فإن هذه القيمة قد تناقصت بسبب التضخم عبر السنوات لتصبح قيمة 100 دولار الفعلية سنة 1973 هي 22.30 دولارا فقط ولتصبح قيمة 100 دولار الفعلية سنة 2019 هي 3.87 دولارا فقط!
قال الخبير الاقتصادي الروسي Alexander Nazarov أليسكندر نازاراوف “كان لدى الولايات المتحدة قبل أزمة العام 2008 حوالي 0.3 تريليون دولار في التداول، والآن أصبح لديها 8.7 تريليون دولار من الفراغ، واشترت بها سلعا حقيقية من بلدان أخرى” فأي نصب واحتيال هذا؟
نموذج أذون الخزانة في اليمن
ولعل التجربة اليمنية مع أذون الخزانة قد جسدت فكرة الاقتصاد الوهمي التي تنتهي بالتضخم، فعبر أذون الخزانة قدمت الدولة ربحا يصل إلى 15% خلال أقل من عام وبذلك فقد هرع جميعُ من يمتلك سيولةً بما في ذلك البنوك ومكاتب البريد والتأمينات للاستثمار في أذون الخزانة بغرض الحصول على هذا الربح السريع المضمون، لكن أين الاستثمار الحقيقي من كل ذلك؟ الجواب: لقد انصرف الجميع عن الاستثمار في مشاريع حقيقية تبني البلاد واتجهوا بدلا من ذلك للاستثمار في أذون الخزانة!
لكن ما هو مصير السيولة التي وفرتها أذون الخزانة؟ كيف استفادت الدولة منها؟
للأسف.. فمعظم السيولة التي وفرتها أذونُ الخزانة كانت تُستخدم في دفع المرتبات وفي نفقات تشغيل، وهكذا مر عام بعد عام ليتحول هذا الحل المؤقت (أذون الخزانة) إلى مشكلة أكبر ألا وهي تضخم الدين العام، لنجد أن هذه العملية قد خلقت عملة دفترية قيمتها هي أضعاف المبالغ الفعلية التي حصلت عليها، فمن أين يمكن مواجهة ذلك؟
للأسف كان يتم مواجهتها بطباعة عملة جديدة! وهكذا استمرت هذه العملية لتتضخم كل عام في الحجم وهي مملوءة بالهواء الفارغ مثل البالون الذي ينتظر وخزة إبرة لينفجر وتتبدد به أموال الناس وحقوقهم، وغني عن الذكر أنه بعد هذه الدورة الاقتصادية التي أغرقتنا بالديون لم يتحقق أي استثمار حقيقي ملموس على الأرض!
وضمن هذا السياق قد نفهم تصريحات وزيرة الخزانة الأمريكية Janet Yellen جانيت يلين أمام الكونجرس وهي تحثه على رفع سقف الدين العام ليسمح بمزيد من الاقتراض حتى لا تتخلف الدولة عن سداد الديون السابقة المستحقة، فهذه التصريحات بحد ذاتها هي إقرار رسمي بأن الولايات المتحدة الأمريكية في حالة إفلاس! وأنها تعالج المشكلة بخلق مشكلة أكبر وأوسع! ولقد علق الخبيرُ الاقتصادي الأمريكي Peter Schiff بيتر شيف على تصريحات وزيرة الخزانة الأمريكية قائلا “إن هذا لهو اعتراف رسمي بأن الولايات المتحدة الأمريكية تُدير أكبر مخطط احتيال في العالم”.
نموذج الاقتصاد الحقيقي
لو كان جذب رؤوس الأموال مشروطا بالدخول في استثمار حقيقي وبتحقيق ربح حقيقي للطرفين ولو مع هامش صغير للمخاطرة لقبل به كثير من الناس ولتحققت به نهضةٌ استثمارية حقيقية بعيدا عن الاقتصاد الوهمي الضار سيما لو كان مدعوما من دولة تُحرّم طباعة العملة دون غطاء وتسعى لاستثمار ثروات البلد فعليا بدلا من بيع الوهم والمتاجرة به.
نعم قد يستثقلُ البعضُ فكرةَ المخاطرة بخسارة جزء من رأس ماله في مشاريع حقيقية لكنها أسلم بكثير من الفوائد المضمونة في عالم الوهم والاحتيال، لأن الفوائد المضمونة تخلق عملةً لا وجود لها وبالتالي فهي تُخفض سعرَ العملة عموما وتسرق كل حاملي العملة دون أن يشعروا وهي في جيوبهم، فهي ضارة ومدمرة للعملة وللاقتصاد وللاستثمار، بينما المخاطرةُ المشروطةُ بوجود استثمار حقيقي يمكن متابعته ويقوم على دراسات متأنية وتدعمه الدولة وترعاه وتوفر له التسهيلات وتحميه من المعوقات فإن ذلك سيخلق اقتصادا حقيقيا وسيبني البلد وسيكون رغم المخاطرة شبه مضمون الربح للأفراد وللمجتمع وللدولة سيما مع توفيق الله وبركاته.
وهذا هو معنى القول المنسوب إلى الاقتصادي الانجليزي الشهير John Maynard Keynes جون ماينرد كينز الذي قال “إننا لن نصل إلى التوظيف والاستثمار الأمثل حتى نجعل الفائدة البنكية تساوي صفرا”.
يكفي أن نتتبع الأزمة الاقتصادية عام 2008 لنعرف ما الذي تعنيه كلمة فوائد في عالم الوهم، تلك الأزمة التي بدأت بقروض ذات فوائد (خلق عملة دفترية) ثم تحولت تلك القروض بحد ذاتها إلى وثائق استثمار بفوائد أخرى يتم تداولها في السوق (يعني خلق عملة دفترية من عملة دفترية) وكادت هذه الأزمة تعصف بالاقتصاد العالمي فاضطرت الحكومة الأمريكية أن تسدد دولارات حقيقية حتى لا يتعثر المحتالون الصغار فينكشف الاحتيال الأكبر، ولقد وصف الرئيس الأمريكي البنوك المتعثرة قائلا: “They were too big to fail“ فمن أين أتت الحكومة الأمريكية بالدولارات الحقيقية؟ ومن سيدفع ثمن ذلك؟
قال الفيلسوف اليوناني الشهير Aristotle أرسطو “الأرض يمكن أن تُخرجَ نباتا، والدابةُ يمكن أن تلد دابةً، ولكن كيف يُتصوّر أن يَلِدَ الدرهمُ درهما آخر؟ لقد خُلِقَ الدرهمُ عقيما، وسيبقى عقيما”.
والآن لنعيد طرح سؤالنا الرئيسي: هل الفوائد البنكية ضرورة من ضرورات الاقتصاد؟
الجواب: من خلال ما سبق يتبين لنا إن الفوائد البنكية ليست ضرورة من ضرورات الاقتصاد كما يتصور البعض بل على العكس تماما فقد تكونُ الفوائدُ البنكيةُ سببا لإلحاق ضرر عميق وجوهري بالاقتصاد وبالمجتمع وبالأفراد.
قال الدكتور Hjalmar Schacht هالمر شاخت مدير بنك الرايخ الألماني سنة 1953: “إنه بعملية رياضية يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين، ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية بينما المدين معرض للربح والخسارة ومن ثم فإن المال كله في النهاية لابد بالحساب الرياضي أن يصير إلى الذي يربح دائما”.
في الختام أستذكر قول الحق تبارك وتعالى وهو يحذرنا قائلا “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون” صدق الله العلي العظيم، فهل يمكن أن يُصدّق أحدٌ بعد هذا الخطاب الإلهي شديد اللهجة أن الربا ظل لغزا خفيا لأكثر من ١٤٠٠ عام بانتظار أن يفطن لمعناه فلان أو علان من أذكياء هذا الزمان؟ أي ثقة بالنفس هذه؟ والله المستعان.